كن جميلا (10).

المشرف العام

Administrator
طاقم الإدارة
*كن جميلا (10)* محمود توفيق حسين [1] عندما تكون في زيارة للبلدة في موسم التمر، وتمر بطفلك في السوق العامر الذي جلب الناس من كل ناحية لشراء البلح بأنواعه، حيث تكون الكميات الوافرة والسعر الرخيص، وما يسقط من المكاتل والزنابيل الممتلئة لا يُسأل عنه، ويلتقط طفلك بلحة من بساط فلاحة ملهية في البيع؛ لا تفكِّر في أنها مجرد بلحة، بل فكِّر في أن مبتدأ الحرام من الخبزة والبيضة والتمرة؛ لا تفكِّر بأن سوق هؤلاء قام على السماح فيما يسقط وفيما يُلتقَط، بل فكِّر في أن سوق التربية يقوم على استغلال هذه الفرص لتقبيح الحرام في عين الابن، عندما يرى أباه قد سارع بأخذ التمرة من كفه بغير استهانة وأعادها إلى بساط صاحبتها، لا تفكِّر في أن إخراج التمرة من كف الصغير فيه شيء من القسوة، فرسولك صلى الله عليه وسلم أخرجها من فم حفيده وهو المبعوث رحمة للعالمين. [2] عندما تسهر لساعة متأخرة من الليل قبل سفرك بالطائرة، وتستيقظ متأخرًا وترتدي ملابسك بسرعة وتندفع للمطار، ويضطر موظف الصالة لمنعك من الدخول إلى نقطة الجوازات، وتندفع فيه لاعنًا إياه، ولاعنًا غباء النظم التي تعطِّل رجل أعمال نافذًا مثلك، حتى يرتبك الموظف وقد أصابته رهبة من تهمك ومن الاتصالات التي يمكنك إجراؤها؛ ثم تسافر من بعدها إلى سويسرا، وتتأخر دقيقة واحدة عند الرجوع عن موعد غلق البوابة، ويردك الموظف الأشقر الأنيق بلطف وحسم، و تتحجج إليه بحجة كاذبة لتثير شفقته، وتحاول أن تتعذر إليه بكل استعطاف بأنها دقيقة لا غير، فيقول لك بثبات : (لا يا عزيزي، حتى ولو كانت دقيقة، الدقيقة هي التي صنَعت سويسرا)، وينكسر وجهك حياءً، ولا تجرؤ على رفع صوتك عليه، وتعود في رحلة اليوم التالي لتحكي بفخر عن النظام والدقة والدقيقة التي صنعت سويسرا؛ لا تفكِّر في الفرق بين الموظفين، بل فكِّر في الفرق بينك مسافرًا عبر مطار محلي وبينك مسافرًا عبر مطار جنيف، فكِّر في أنك تساعد على تكوين موظف متهاون ومهزوز في المطار المحلي يمرر قدر الإمكان، ولا مانع من أن يأخذ في يده ورقة نقدية، وتساعد على أن يظل الآخر نزيهًا واثقًا معتزًّا بالساعة. [3] عندما تقف في متجرك العامر بأصناف البقالة والتموينات، ويدخل عليك مندوب **** السجائر عارضًا عليك تنزيل بضاعته عندك، لا تفكِّر في أن لديك 1000 صنف لن يفسد ربحها الدخان البسيط، بل فكِّر في أن ربح 1000 صنف حلال تغنيك تمامًا عن كسب الدخان المحرم؛ لا تفكِّر بأن المسألة بالنسبة لك أنه يعزّ عليك أن يدخل عندك زبون ويسأل عن شيء ولا يجده، بل فكِّر في أن يعزّ عليك أن يجد الله عندك ما لم يحل لك بيعه؛ فكِّر في أن الزبائن لا يدعون على البائع الذي لم يجدوا عنده علبة السجائر، بل يدعون في سعالهم وعند إجرائهم لكشف الأشعة على من علمهم تدخينها. [4] عندما تتقدم لخطبة فتاة، ولا زالت وأهلها في مرحلة التباحث والتشاور، وإن كان من الواضح أن الأمور تسير على ما يرام، وتحدثك نفسك بأن تؤجل إعلانها أمر مرضك الوراثي إلى أن تصل فتاتك إلى مرحلة التعلق بك؛ لا تطع ما تسوِّل لك نفسك؛ لا تفكِّر بأنك تبحث عن الوقت المناسب، بل فكِّر في أن أسوأ ما يقال عن العريس عند فشل خطوبة هو أنه كذب، ثم يليها في السوء أنه أخفى؛ الوقت المناسب هو أن تصارحها قبل أن تعرف من طرف آخر؛ الوقت المناسب هو أن تعرف منك قبل أن تأخذ قرارها لا بعده؛ لا تفكِّر في أنها لو عرفت منك ستتردد، بل فكِّر في أنها لو عرفت من غيرك سترفضك بغير أي تردد؛ لا تفكِّر في تلك الصورة التي تتخيلها فيها ترفضك وهي خجلَى بسبب مرضك الذي لا دخل لك به، بل فكِّر في تلك الصورة الأصعب عليك عندما تعلن فسخ ****وبة بغير خجل، بسبب عدم مصارحتك الذي رفع عنها الشعور بالخجل. [5] عندما تكون على موقع من مواقع التواصل، وتصل إليك صورة واضحة لأحد الأشخاص من أي مصدر، يحرض على قتله باعتباره مجرمًا، ويطلب من الآخرين تداول الصورة وبيانات صاحب الصورة، لا تأخذك الحماسة وتبادر بنشرها، لا تفكِّر في أنك تلاحق مجرمًا، بل فكِّر في أنك تتعاون مع الآخرين في الاستهانة بحرمة الدم، لا تفكِّر في أن بعض البشر لا يتورعون عن فعل هذه الجرائم، بل فكِّر في أن هناك بعض البشر لا يتورعون عن صنع الأخبار الكيدية، وأن هناك الكثير من البشر لا يتورعون عن التحدث بكل ما يسمعون بدون تثبت. [6] عندما تتحدث معك زوجتك بشأن همز صديقة لها في جلسة نسوية بالأمس، وتقدم لها رأيك بأن لا تفاتحها في الأمر ولا تعاتبها وأن ترقى فوق هذه الأمور، وستعود لها صاحبتها بروح متعذرة، ولكن زوجتك لم تقدر على ذلك وفاتحت صديقتها، وصفا الجو بينهما؛ لا تفكِّر في أنها ضربت برأيك عرض الحائط، بل فكِّر في أنها تمتعت بالأمس بالبوح لك في شأن يخصها وسعدت بحسن استماعك؛ لا تفكِّر بأنها هوائية سطحية مندفعة، بل فكِّر في أنك أيضًا ككل البشر تستشير وتستمع لآراء ناضجة ثم يحدث أن تندفع في فعل ما تميل إليه بدون أن تضمر استخفافًا بمن استشرته؛ لا تفكِّر بأن تتعصَّب عليها لأنها لم تستمع إليك وفعلت ما كانت متحرقة لفعله، بل فكِّر في أن عصبيتك عليها لعدم انصياعها سيجعلها تتوقف عن استشارتك في تفاصيلها الصغيرة، لتفقد فيك الصديق؛ فكِّر في أن سكنها إليك لا يعتمد على صحة رأيك في التفاصيل التي تسمعها منها بقدر ما يعتمد على صحة تفاعلك واستيعابك.

أكثر...
 
أعلى