تحديات المرحلة الانتقالية الحقيقية

المشرف العام

Administrator
طاقم الإدارة
تحديات المرحلة الانتقالية الحقيقية


يعتبر كثير من المحللين خمسية الرئيس الموريتاني المنتخب؛ بمثابة المرحلة الانتقالية الحقيقية، وأن فترة حكم المجلس العسكري -على أهميتها- لم تكن سوى الخطوة الأولى على طريق الانتقال الفعلي نحو نمط حكم جديد، ينتشل البلاد والعباد؛ من انسداد الأفق السياسي، والاحتقان الاجتماعي، والتردي الاقتصادي، وغيرها من المساوئ التي طبعت العقود الثلاثة الماضية من حكم العسكر.


لذلك على رئيس موريتانيا الجديد أن يواجه جملة تحديات لا تقتصر على إنجاز وعوده بالتغيير الهادئ والإصلاح الاقتصادي، وإنما تتجاوز ذلك إلى التعامل مع ملفات كبيرة آثر العسكر -لثقلها وحساسيتها- ترحيلها إلى الفترة اللاحقة، إضافة إلى طبيعة التعاطي مع الطيف السياسي المتنوع في البلاد، وتوجهات السياسة الخارجية الموريتانية. فضلا عن تحديد العلاقة مع المؤسسة العسكرية، ذات التاريخ الزاخر بالانقلابات.


أولا - وعود التغيير على المحك
تميزت خطابات المرشحين خلال الحملة الرئاسية بالكثير من الوعود، ولم يكن السيد سيد ولد الشيخ عبد الله بمنأى عن منافسيه، فقد تعهد –من بين أمور عديدة- بإصلاح اقتصادي حقيقي، وإتباع سياسة اجتماعية تراعي الفئات الضعيفة، والاعتناء بالإدارة والتعليم وغير ذلك من العناوين الكبيرة؛ والتي تحتاج إلى تدابير كثيرة؛ لترجمتها على أرض الواقع.
فالحاكم المدني الجديد مطالب بمواصلة ما بدأته حكومة المجلس العسكري؛ من إعادة التوازنات الاقتصادية الكبرى، وكذا الاستغلال الرشيد للموارد الطبيعية للبلاد، خاصة منها الثروتين المعدنية والسمكية. وعلى ولد الشيخ عبد الله أن يستثمر علاقاته المهنية السابقة مع بعض المؤسسات النقدية العربية؛ في استجلاب رؤوس الأموال اللازمة للنهوض بالاقتصاد الوطني؛ من خلال تشييد بنية تحتية حقيقية، والاستفادة من الثروات المتنوعة.
وإذا كان جل الموريتانيين يعول على احتياطيات النفط والغاز في إحداث نقلة اقتصادية كبيرة، والخروج بالبلاد من قائمة الدول الأشد فقرا، إلا أن تدني الإنتاج الموريتاني من خامات النفط مؤخرا عن مستوى التوقعات، وتذبذب أسعار الوقود، كلها أمور قد تقف عائقا في وجه تحقيق هذا الحلم. مما يزيد حدة التحدي الاقتصادي أمام السلطات الجديدة.
إن تسييرا محكما للثروات المعدنية كالحديد والذهب، والسمكية، والحيوانية، والزراعية، في موريتانيا. يمكن أن يوفر روافد جديدة للدخل والنمو الاقتصادي، والحد من البطالة التي تدفع بجزء هام من الشباب نحو هجرة خارجية مكثفة.
لذلك يتعين على ولد الشيخ عبد الله وحكومته؛ دعم القدرة الشرائية للمواطن، وموائمة الأجور مع مستوى الأسعار، والعناية بالفئات الضعيفة حيث يعيش قرابة نصف الموريتانيين بأقل من دولار في اليوم. وكذا تحسين الخدمات الصحية والتعليمية في بلد لا يتجاوز متوسط أمل الحياة لسكانه عند الولادة 51 سنة، وتصل نسبة الأمية بينهم إلى 41% وفق أكثر التقديرات تفاؤلا.


ثانيا - الملفات المرحَلة وحساسية المرحلة
ربما يواجه ولد الشيخ عبد الله في خمسيته مواقف سياسية حرجة؛ تجعله يغبط منافسه الذي لم يحالفه الحظ في شوط الرئاسيات الثاني. وذلك لحساسية الملفات التي تنتظره، فهو مطالب بتعزيز الوحدة الوطنية، والتعامل بحكمة مع قضية المبعدين، ومسألة الرق ومخلفاته، والإرث الحقوقي لنظام ولد الطائع، فضلا عن ملفات الفساد الاقتصادي والمالي.
فلن يعدم الرئيس الجديد وحكومته من يطالبهما بإعادة النظر في انتماء موريتانيا العربي، ومكانة اللغة العربية مقارنة باللغات الوطنية الأخرى، ولن تكون يد الدوائر الفرانكفونية محايدة في هذا الصدد. وربما يدعو البعض إلى إصلاح إداري إقليمي يراعي التركيبة الإثنية للبلاد.
تعهد سيد ولد الشيخ عبد الله بحل قضية المبعدين في السنة الأولى من حكمه، ولكن القضية لا تبدو بهذه البساطة فإعادة توطين آلاف الأفراد، وتعويضهم ماديا عن ممتلكاتهم الثابتة والمنقولة، وإعادة دمجهم اجتماعيا ونفسيا كلها أمور تستلزم جهودا جبارة وأموالا طائلة، فضلا عن إشكالية تحديد الموريتاني حقيقة من بين هؤلاء المبعدين، والتي ستثير من جديد مسألة الهوية الموريتانية.
أما مسألة الرق ومخلفاته فهي تمثل من فترة غير قصيرة مادة للجدل السياسي والإعلامي والاجتماعي، فلكل تيار سياسي منظوره الخاص ورؤيته لحل المسألة. فبين مطالب بدسترة تجريم الممارسة، وبين من يعتبر العبودية ظاهرة من الماضي، يرى كثيرون أن معالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للرق تتطلب مشروع مجتمع جديد.
إن مسألة الرق مثلت في الماضي تجارة رائجة في سوق الاستخدام السياسي، لذلك سوف تنال حظها من اهتمام الطبقة السياسية خلال الخمسية القادمة. كما يمكن أن تسوّق خارجيا لإحراج النظام وما بيانات معهد الحراطين بنيويورك –وإن لم تحو بينات مقنعة- ببعيدة عن هذا الإطار. لكن رواج المسألة داخليا وخارجيا يعتمد بشكل كبير على مدى نجاح السلطات الجديدة في الحد من التباينات الصارخة بين فئات المجتمع وجهات البلاد.
نالت مختلف ألوان الطيف السياسي الموريتاني، حظها من الاضطهاد في عهد الرئيس المخلوع معاوية ولد الطائع. فلم يسلم القوميون الزنوج والعروبيون من بطش النظام البائد، ولا زعماء المعارضة الحزبية المعترف بها دستوريا. إلى أن دارت الدائرة على الحركة الإسلامية الإخوانية، ثم السلفية والتي ما يزال بعض منتسبيها خلف القضبان.
قد يضطر الرئيس الجديد إلى التعاطي مع ملفات الإرث الحقوقي لنظام معاوية، خاصة مع وجود إجراءات قضائية في أوربا ضد الرئيس المخلوع وبعض منسوبي مؤسسة الجيش، حول الانتهاكات الإنسانية بحق انقلابيي 1987 الزنوج، والجناح المدني لحركة أفلام. وربما يعاد فتح ملفات المعاملة الأمنية والقضائية مع فرسان التغيير والإسلاميين.
ملف آخر آثر المجلس العسكري تجاوزه، وهو موضوع الفساد المالي والإداري، وقد لا يمتلك الرئيس المنتخب الرغبة في معالجته، بحكم تكوين "الأغلبية" الرئاسية التي أوصلته للكرسي.


ثالثا - طيف سياسي متنوع المشارب
قال الشعب الموريتاني كلمته –أو بالأحرى كلمتيه- غداة 25 مارس 2007، وانتخب سيد ولد الشيخ عبد الله رئيسا جديدا للبلاد لكن بأغلبية ضئيلة، فقد حصل منافسه على نسبة 47.15% من أصوات الناخبين، أي أن قرابة نصف الموريتانيين لا يتفقون في الرأي مع من أيدوا سيد وانتخبوه.
تلك حقيقة أولى على الرئيس المنتخب أن يدرك مغزاها، فكلمة الشعب الموريتاني تلك؛ تقضي في منطوقها بفوز ولد الشيخ عبد الله رئيسا، ولكنها توحي في مفهومها بتأييد واسع لتوجه المعارضة السابقة. والتي تتمتع في البرلمان الجديد بحضور معتبر على عكس الفترات الماضية.
فحزب تكتل القوى الديمقراطية، الذي نافس رئيسه في الشوط الثاني من الرئاسيات المنقضية، يتمتع بأكبر حصة برلمانية –حاليا على الأقل- بين الأحزاب الموريتانية. وكذلك فلكل من اتحاد قوى التقدم، والإصلاحيين الوسطيين، وحزب الإصلاح والتغيير الموريتاني (حاتم)، تمثيل برلماني يحسب له حسابه.
ولا تزال مسألة الترخيص لحزب إسلامي مطلبا لدى الإصلاحيين الوسطيين (إخوان مسلمون)، وهو مطلب رفضه رئيس المجلس العسكري في أكثر من مناسبة. كما تسعى حركة الديمقراطية المباشرة (لجان ثورية) إلى الحصول على ترخيص لحزب سياسي.
كذلك أعلن كل من مرشحي الرئاسة السابقين الزين ولد زيدان وإبراهيما مختار صار؛ عن نيتهما إنشاء حزبين سياسين جديدين، وكانا قد حصلا في الشوط الأول على نسبتي 15.27% و7.94% على التوالي من أصوات الناخبين، مع اختلاف واضح في مناطق نفوذ كليهما.
وسواء شكلت حكومة وحدة وطنية أو حكومة "أغلبية" رئاسية، فإن التعامل مع الطيف السياسي الموريتاني بمختلف ألوانه وتوجهاته، لن يخلو من احتكاكات وتجاذبات تتطلب من الرئيس الجديد؛ حكمة وروية ونهجا تشاوريا، أسس المجلس العسكري لبعض ملامحه.


رابعا - سياسة خارجية على مفترق طرق
بحكم موقعها الجغرافي وتكوينها السكاني، تشكل موريتانيا ملتقى طرق ورهانات إقليمية متعددة، لذلك فإن المعادلة التي ستواجه سياستها الخارجية في الخمسية القادمة، هي كيفية المواءمة بين الانتماء العربي والبعد الإفريقي. فعليها أن تنظر شمالا دون أن تدير ظهرها للجنوب؛ بحيث لا تعزز انتماءها المغاربي على حساب صلاتها بدول غرب إفريقيا.
ولا شك أن البعض سيلح على السلطات الجديدة من أجل إعادة الانخراط في اللجنة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا CEDEAO التي انسحب منها نظام ولد الطائع سنة 1999. ويطالبها بمزيد تفعيل دورها في منظمة استثمار نهر السنغال OMVS، واللجنة الدولية لمكافحة آثار الجفاف في الساحل CILSS .
تشمل التحديات الخارجية للنظام الجديد؛ التعامل مع مسألة العلاقات الدبلوماسية بين نواكشوط وتل أبيب. وقد وعد الرئيس الجديد بعرض المسألة على البرلمان للبت فيها، وفي ذلك محاولة للتهرب من مسألة حساسة، يحسن السياسيون استغلالها على المستويين الإعلامي والشعبي. فالرئيس نفسه صرح لدى ترشحه بأنه لو سئل عن تلك العلاقات قبل إقامتها لرفضها، لكن بعدما أصبحت أمرا واقعا فإن التعامل معها يكون في سياق مختلف. كما أكد ولد الشيخ عبد الله بعد انتخابه في أكثر من مناسبة بأن موقف موريتانيا من دولة إسرائيل رهن بمدى تقدم العملية السلمية.
وفي هذا الصدد يصعب الجزم بأن حكام البلاد الجدد، سوف يبادرون إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العبرية، حتى وإن كلفهم استمرارها امتعاضا شعبيا داخليا، أو انتقادا إعلاميا عربيا. فالمسألة على ما يبدو على صلة بحسابات خارجية؛ أمريكية بالأساس.
أمريكا أيضا تقود حملتها الدولية ضد ما تصفه بـ"الإرهاب"، وفي هذا الإطار تولي اهتماما خاصا لمنطقة الصحراء الإفريقية الكبرى؛ والتي تخشى أن تتحول إلى معقل جديد للقاعدة، خاصة بعد انضواء الجماعة السلفية للدعوة والقتال تحت لوائها؛ باسم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهي لا تفتأ منذئذ تضرب وتتوعد.
لذلك على السلطة الجديدة أن تتخذ موقفها من مسألة خطيرة، من ليس مع أمريكا فيها فهو ضدها. ومن شبه المؤكد أن قيادة موريتانيا لن تختار غير صف الولايات المتحدة، مع ما يقتضيه ذلك من تعاون أمني وعسكري، قد يتطور إلى إقامة قواعد طويلة الأمد –وربما سجون سرية- تسعى أمريكا إلى نشرها في المنطقة، وموريتانيا بحكم موقعها مؤهلة لها. ومع ما يعنيه ذلك، في نفس الوقت، من مخاطر تعرض البلاد لضربات القاعدة المغاربية، التي سبق وأن ذاقت حامية لمغيطي 2005 بعضا من مرارتها.
تحديات السياسة الخارجية؛ للأوربيين نصيبهم منها، في مجالي الصيد البحري والهجرة السرية. والرئيس الجديد؛ وهو المجرِب في ملف الصيد، مطالب بالنظر في اتفاقياته بما يخدم مصلحة البلاد، ويحمي الثروة السمكية من النفاد. كما عليه أن يقرر ما إذا كانت موريتانيا على استعداد؛ لحراسة جزر الكناري، واصطياد قاصديها من رعايا دول الجوار الإفريقي.


خامسا - المؤسسة العسكرية وقابلية الانقلاب
لم تشهد موريتانيا استقرارا سياسيا حقيقيا بعد الإطاحة بالحكم المدني في انقلاب 10 يوليو 1978، فقد أجبر كل من محمد المصطفى ولد محمد السالك (1979) ومحمد محمود ولد أحمد لولي (1980) على الاستقالة بانقلابين أبيضين. كما واجه المقدم محمد خونه ولد هيدالة محاولة انقلاب 16 مارس 1981 الدامية، قبل أن يطيح به العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطائع في انقلاب أبيض غداة 12 ديسمبر 1984.
ولم تسلم فترة معاوية -الأطول حتى الآن- في سدة الحكم من محاولات انقلابية متنوعة، أحبط بعضها دون حدوث أعمال قتالية؛ كما هو الحال في محاولات 1987 التي دبرها عسكريون زنوج، والانقلابات المفترضة في أغسطس وسبتمبر 2004. بينما أسفر انقلاب "فرسان التغيير" (عسكريون بيضان) في 8 يونيو 2003 عن سقوط عديد الضحايا في قتال استمر يومين قبل استعادة النظام.
وجاء انقلاب 3 أغشت 2005 أبيض ناجحا ليضع حدا لحكم العقيد ولد الطائع، فنال رضا معظم الطبقة السياسية في موريتانيا، وإن استقبل في البداية بريبة على الصعيد الخارجي. لكن لا يعرف حتى الآن؛ ما إذا كانت الإصلاحات السياسية التي أعقبت انقلاب أغشت 2005 –خاصة ما تعلق منها بالولاية الرئاسية- ستضع حدا لشهية المؤسسة العسكرية تجاه القصر الرمادي، ليكون أعل ولد محمد فال العقيد الأخير بين حكام موريتانيا.

ذلك تحد آخر من تحديات الخمسية القادمة، فإما أن تودع موريتانيا إلى غير رجعة ثقافة الانقلابات، وإما أن تنتكس المكاسب الديمقراطية للمرحلة الانتقالية. وفي كلتا الحالتين فالأمر مرتبط بمدى ونمط الاستجابة للتحديات الآنفة.

د. سليمان ولد حامدن ولد حرمة
أوباري (ليبيا) في: 16/04/2007

أكثر...
 
أعلى